👈في صحيحِ البخارى : عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قال:الشِّفَاءُ فى ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ،
وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنا أنْهى أُمَّتى عن الْكي .
قال أبو عبد الله المازَرِى : الأمراض الامتلائية: إما أن تكون دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية، فشفاؤها إخراجُ الدم، وإن كانت من الأقسام الثلاثةِ الباقية، فشفاؤها بالإِسهال الذى يَليق بكل خِلط منها، وكأنه صلى الله عليه وسلم: نَبَّهَ بالعسل على المسهلات، وبالحِجامة على الفَصْد، وقد قال بعض الناس: إنَّ الفصدَ يدخل فى قوله: ((شَرْطهِ مِحْجَمٍ))؛ فإذا أعْيَا الدواءُ، فآخِرُ الطبِّ الْكَىٌّ. فذكره صلى الله عليه وسلم فى الأدوية، لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقُوى الأدوية، وحيث لا ينفعُ الدواءُ المشروب. وقوله: ((وأنا أنْهى أُمَّتى عن الكَىِّ))، وفى الحديث الآخر: ((وما أُحبُّ أن أَكْتَوِى)). إشارةٌ إلى أن يؤخَّرَ العلاجَ به حتى تَدفَع الضرورةُ إليه، ولا يعجل التداوى به لما فيه من استعجال الألم الشديد فى دفع ألمٍ قد يكون أضعفَ من ألم الكَىّ... انتهى كلامه.
وقال بعض الأطباءِ: الأمراضُ المِزاجية: إما أن تكون بمادة، أو بغير مادة، والمادية منها، إما حارةٌ، أو باردةٌ، أو رَطبةٌ، أو يابسةٌ، أو ما تركَّب منها، وهذه الكيفيات الأربع، منها كيفيتان فاعلتان: وهما الحرارةُ والبرودةُ؛ وكيفيتان منفعلتان: وهما الرطوبة واليبوسة، ويلزم من غلبة إحدى الكيفيتين الفاعلتين استصحابُ كيفية منفعِلَة معها، وكذلك كان لكل واحد من الأخلاط الموجودة فى البدن، وسائر المركَّبات كيفيتان: فاعلةٌ ومنفعلةٌ.
فحصل مِن ذلك أنَّ أصل الأمراض المِزاجية هى التابعة لأقوى كيفيات الأخلاط التى هى الحرارةُ والبرودةُ، فجاء كلام النبوة فى أصل معالجة الأمراض التى هى الحارة والباردة على طريق التمثيل، فإن كان المرض حاراً، عالجناه بإخراج الدم، بالفَصْد كان أو بالِحجامة، لأن فى ذلك استفراغاً للمادة، وتبريداً للمِزاج. وإن كان بارداً عالجناه بالتسخين، وذلك موجود فى العسل، فإن كان يحتاج مع ذلك إلى استفراغ المادة الباردة، فالعسلُ أيضاً يفعل فى ذلك لما فيه من الإنضاج، والتقطيع، والتلطيف، والجِلاء، والتليين، فيحصل بذلك استفراغ تلك المادة برفق وأمْنٍ من نكاية المسهلات القوية.
وأما الكَىُّ: فلأنَّ كلَّ واحد من الأمراض المادية، إما أن يكون حاداً فيكون سريعَ الإفضاء لأحد الطرفين، فلا يُحتاج إليه فيه، وإما أن يكون مُزْمِناً، وأفضلُ علاجه بعد الاستفراغ الكىُّ فى الأعضاء التى يجوز فيها الكَىّ. لأنه لا يكون مزمناً إلا عن مادة باردة غليظة قد رسخت فى العضو، وأفسدتْ مِزاجَه، وأحالتْ جميع ما يصل إليه إلى مشابهة جوهرها، فيشتعل فى ذلك العضو، فيستخرج بالكىِّ تلك المادةُ من ذلك المكان الذى هو فيه بإفناء الجزء النارى الموجود بالكىِّ لتلك المادة.
فتعلمنا بهذا الحديث الشريف أخْذَ معالجة الأمراض المادية جميعها، كما استنبطنا معالجةَ الأمراضِ الساذَجةِ من قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ شدةَ الحُمَّى مِن فَيْحِ جَهَـنَّمَ، فأبرِدُوهَا بالماء))
وأما الحِجَامةُ، ففى ((سنن ابن ماجه)) من حديث جُبَارَةَ بن المُغَلِّس وهو ضعيفٌ عن كثير بن سَليم، قال: سَمعتُ أَنَسَ بن مالكٍ يقولُ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ما مَرَرْتُ ليلةَ أُسْرِىَ بى بملإٍ إلا قالُوا: يا محمدُ؛ مُرْ أُمَّتَكَ بِالحِجَامَةِ)).
وروى الترمذى فى ((جامعه)) من حديث ابن عباس هذا الحديث، وقال فيه: ((عليكَ بالحِجَامَةِ يا مُحَمَّدُ)).
وفى ((الصحيحين)) من حديث طَاووس، عن ابن عباس، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم ((احتجَمَ وأعْطى الحَجَّامَ أجْرَه)).
وفى ((الصحيحين)) أيضاً، عن حُمَيدٍ الطويل، عن أنس، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجمَهُ أبُو طَيْبَةَ، فأمَرَ لهُ بصَاعينِ مِن طعامٍ، وكلَّمَ مواليهُ، فخفَّفُوا عنهُ مِن ضريبتِهِ، وقال: ((خَيْرُ مَا تَدَاويْتمْ بِهِ الْحِجَامَةَ)).
وفى ((جامع الترمذىّ)) عن عبَّاد بن منصور، قال: سمِعتُ عِكْرمَةَ يقولُ: ((كانَ لابن عباسٍ غِلمةٌ ثلاثةٌ حَجَّامُون، فكانَ اثنَانِ يُغلانِ عليه، وَعَلَى أهلِهِ، وواحدٌ لحجمِهِ، وحجمِ أهلِهِ. قال: وقال ابنُ عباسٍ: قال نبىُّ الله صلى الله عليه وسلم: ((نِعْمَ العبدُ الحَجَّامُ يَذْهَبُ بالدَّمِ، وَيُخِفُّ الصُّلْبَ، ويَجْلُو البَصَرَ)). وقال: إنَّ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حيثُ عُرِجَ بِهِ، ما مرَّ عَلَى مَلأٍ مِن الملائكةِ إلاَّ قالُوا: ((عليكَ بالحِجَامَةِ)). وقالَ:
((إنَّ خيرَ مَا تحْتَجِمُونَ فيهِ يَوْمَ سَبْعَ عَشْرَةَ، ويَوْمَ تِسْعَ عَشْرَةَ، وَيَوْمَ إحْدَى وَعِشرينَ))، وقال: ((إنَّ خَيْرَ ما تَدَاويْتُمْ بِهِ السَّعُوطُ واللَّدُودُ والحِجَامَةُ والمَشِىُّ، وإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لُدَّ، فقالَ: ((مَن لَدَّنِى)) ؟ فَكُلُّهُمْ أمسكُوا. فقال: ((لا يبقَى أحَدٌ فى البَيْتِ إلا لُدَّ، إلاَّ العباسَ)). قال: هذا حديث غريب، ورواه ابن ماجَه.
فصل فى منافع الحِجَامَة
وأما منافعُ الحِجَامَة: فإنها تُنَقِّى سطح البدن أكثرَ من الفَصْد، والفصدُ لأعماق البدن أفضلُ، والحِجَامَةُ تستخْرِجُ الدَّمَ من نواحى الجلد.
قلتُ: والتحقيقُ فى أمرها وأمْرِ الفصد، أنهما يختلفان باختلاف الزمانِ، والمكانِ، والأسنانِ، والأمزجةِ، فالبلادُ الحارةُ، والأزمنةُ الحارةُ، والأمزجة الحارة التى دَمُ أصحابها فى غاية النُّضج الحجامةُ فيها أنفعُ من الفصد بكثير، فإنَّ الدَّمَ ينضج ويَرِقُّ ويخرج إلى سطح الجسد الداخل، فتُخرِجُ الحِجَامَةِ ما لا يُخرجه الفصد، ولذلك كانت أنفعَ للصبيان من الفصد، ولِمَنْ لا يَقْوَى على الفَصد.
وقد نص الأطباء على أنَّ البلاد الحارةَ الحجامةُ فيها أنفعُ وأفضلُ من الفصد، وتُستحب فى وسط الشهر، وبعد وسطه. وبالجملة، فى الربع الثالث من أرباع الشهر، لأن الدم فى أول الشهر لم يكن بعدُ قد هاج وتَبَيَّغَ، وفى آخره يكون قد سكن، وأما فى وسطه وبُعَيْدَه، فيكون فى نهاية التَّزَيُّدِ.
قال صاحب القانون: ويُؤمر باستعمال الحِجَامة لا فى أول الشهر، لأن الأخلاط لا تكون قد تحرَّكت وهاجت، ولا فى آخره لأنها تكون قد نقصَت، بل فى وَسَطِ الشهر حين تكون الأخلاط هائجةً بالغةً فى تزايدها لتزيد النور فى جُرم القمر. وقد رُوِى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((خَيْرُ ما تداويتم به الحِجَامَة والفَصْدُ)). وفى حديث: ((خَيْرُ الدواءِ الحِجَامَةُ والفَصْد)).
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خَير ما تداويتم به الحِجَامَة)) إشارة إلى أهل الحجاز، والبلاد الحارةِ، لأن دِماءَهم رقيقةٌ، وهى أميَلُ إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة لها إلى سطح الجسد، واجتماعها فى نواحى الجلد، ولأن مسامَّ أبدانهم واسعة، وقواهم متخلخِلةٌ، ففى الفصد لهم خطرٌ، والحِجامة تفرُّقٌ اتصالى إرادى يتبعه استفراغٌ كُلِّىٌ من العروق، وخاصةً العروقَ التى لا تُفصد كثيراً، ولِفصد كُلِّ واحد منها نفعٌ خاص، ففصدُ الباسليق: ينفع من حرارة الكبد والطحال والأورام الكائنةِ فيهما من الدم، وينفع من أورام الرئة، وينفع من الشَّوْصَة وذات الجنب وجميع الأمراض الدموية العارضة من أسفل الركبة إلى الوَرِك.
وفصد الأكحل: ينفع من الامتلاء العارض فى جميع البدن إذا كان دمويّاً، وكذلك إذا كان الدم قد فسد فى جميع البدن.
وفصد القيفال: ينفع من العلل العارضة فى الرأس والرقبة من كثرة الدم أو فساده.
وفصد الوَدْجيْنِ: ينفع من وجع الطحال، والربو، والبُهْر، ووجع الجبين.
والحجامة على الكاهل: تنفع من وجع المَنْكِبِ والحلق.
والحجامة على الأخدعين: تنفع من أمراض الرأس، وأجزائه، كالوجه، والأسنان، والأذنين، والعينين، والأنف، والحلق إذا كان حدوث ذلك عن كثرة الدَّم أو فساده، أو عنهما جميعاً.
قال أنس رضى الله تعالى عنه: ((كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحتجمُ فى الأخْدَعَيْن والكَاهِلِ)).
وفى ((الصحيحين)) عنه: ((كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يحتجم ثلاثاً: واحدةً علىكاهله، واثْنتين على الأخْدَعَيْن))
وفى ((الصحيح)) عنه: ((أنه احتجم وهو محرمٌ فى رأسه لِصداع كان به)).
وفى ((سنن ابن ماجه)) عن علىّ: ((نزل جبريلُ على النبى صلى الله عليه وسلم بحجامة الأخْدَعَيْنِ والكَاهِلِ)).
وفى ((سنن أبى داود)) من حديث جابر: ((أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم احتجم فى وَركه من وثءٍ كان به)).
فصل فى مواضع الحِجَامَةِ وأوقاتها
واختلف الأطباءُ فى الحِجَامَةِ على نُقرةِ القفا، وهى: القَمَحْدُوَةُ.
وذكر أبو نعيم فى كتاب ((الطب النبوىّ)) حديثاً مرفوعاً: ((عَلَيْكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمحْدُوَةِ، فإنها تشفى من خمسة أَدواءٍ))، ذكر منها الجُذَامَ.
وفى حديث آخر: ((عليكم بالحِجَامَة فى جَوْزَةِ القَمْحْدُوَةِ، فإنها شفاءٌ من اثْنَيْنِ وسَبْعينَ داءً)).
فطائفةٌ منهم استحسنته وقالت: إنها تنفعُ من جَحْظِ العَيْن، والنُّتُوءِ العارض فيها، وكثير من أمراضها، ومن ثِقل الحاجبين والجَفن، وتنفع من جَرَبه.
وروى أنَّ أحمد بن حنبل احتاج إليها، فاحتجم فى جانبى قفاه، ولم يحتجم فى النُّقرة.
وممن كرهها صاحب ((القانون))، وقال: إنها تُورث النِّسيان حقاً، كما قال سيدنا ومولانا وصاحب شريعتنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، فإنَّ مؤخَّر الدماغ موضع الحفظ، والحِجَامَة تُذهبه.. انتهى كلامه.
وردَّ عليه آخرون، وقالوا: الحديثُ لا يَثبُت، وإن ثبت فالحِجَامَةِ إنما تُضعف مؤخَّرَ الدماغ إذا استُعمِلَتْ لغير ضرورة، فأما إذا استُعملت لغلبة الدم عليه، فإنها نافعة له طباً وشرعاً، فقد ثبت عن النبىِّ صلى الله عليه وسلم أنه احتَجَمَ فى عدةِ أماكنَ مِن قفاه بحسب ما اقتضاه الحالُ فى ذلك، واحتَجَمَ فى غير القفا بحسب ما دعت إليه حاجتُه.
والحِجَامَةُ تحت الذقن تنفعُ من وجع الأسنان والوجه والحلقوم، إذا استُعْمِلَت فى وقتها؛ وتُنقِّى الرأس والفَكَّيْن.
والحِجَامَةُ على ظهر القدم تَنوبُ عن فَصْدِ الصَّافِنِ؛ وهو عِرق عظيم عند الكعب، وتنفع من قروح الفَخِذين والساقين، وانقطاعِ الطَّمْثِ، والحِكَّةِ العارِضة فى الأُنْثَيَيْنِ.
والحِجَامةُ فى أسفل الصدر نافعةٌ من دماميل الفخذِ، وجَرَبِه، وبُثُورِه، ومن النِّقْرِس، والبواسيرِ والفِيل وحِكَّةِ الظهر.🙋