👈فى الصحيحين : من حديث أبى المتوكِّل ، عن أبى سعيد الخُدْرِىِّ ، أنَّ رجلاً أتى النبىَّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنَّ أخى يشتكى
بطنَه وفى رواية : استطلقَ بطنُهُ فقال : اسْقِهِ عسلاً ، فذهب ثم رجع ، فقال : قد سقيتُه ، فلم يُغنِ عنه شيئاً وفى لفْظ : فلَم يزِدْه إلا اسْتِطْلاقاً ، مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقولُ له : اسْقِه عسلا . فقال لهُ فى الثالثةِ أو الرابعةِ : صَدَقَ اللهُ ، وكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ .
فى صحيح مسلم فى لفظ له : إنَّ أخى عَرِبَ بطنُه ، أى فسد هضمُه ، واعتلَّتْ مَعِدَتُه ، والاسم : العَرَب بفتح الراء ، و الذَّرَب أيضاً.
العسل فيه منافعُ عظيمة ، فإنه جلاءٌ للأوساخ التى فى العروق والأمعاء وغيرها ، محلِّلٌ للرطوبات أكلاً وطِلاءً ، نافعٌ للمشايخ وأصحابِ البلغم ، ومَن كان مِزاجه بارداً رطباً ، وهو مغّذٍّ ملين للطبيعة ، حافِظ لِقُوَى المعاجين ولما استُودِع فيه ، مُذْهِبٌ لكيفيات الأدوية الكريهة ، منقٍّ للكبد والصدر ، مُدِرٍّ للبول ، موافقٌ للسعال الكائن عن البلغم ، وإذا شُرِبَ حاراً بدُهن الورد ، نفع من نهش الهوام ، وشرب الأفيون ، وإن شُرِبَ وحده ممزوجاً بماء نفع من عضة الكَلْبِ الكَلِبِ ، وأكلِ الفُطُرِ القتَّال ، وإذا جُعِلَ فيه اللَّحمُ الطرىُّ ، حَفِظَ طراوته ثلاثَةَ أشهر ، وكذلك إن جُعِل فيه القثاء ، و الخيار ، و القرع، و الباذنجان ، ويحفظ كثيراً من الفاكهة ستة أشهر ، ويحفظ جثة الموتى ، ويُسمى الحافظَ الأمين. وإذ لطخ به البدن المقمل والشَّعر ، قتل قَملَه وصِئْبانَه ، وطوَّل الشَّعرَ ، وحسَّنه ، ونعَّمه ، وإن اكتُحل به ، جلا ظُلمة البصر ، وإن استُنَّ به بيَّضَ الأسنان وصقَلها ، وحَفِظَ صحتَها ، وصحة اللِّثةِ ، ويفتح أفواهَ العُروقِ ، ويُدِرُّ الطَّمْثَ ، ولعقُه على الريق يُذهب البلغم ، ويَغسِلَ خَمْلَ المعدة ، ويدفعُ الفضلات عنها ، ويسخنها تسخيناً معتدلاً ، ويفتح سُدَدَها ، ويفعل ذلك بالكبد والكُلَى والمثانة ، وهو أقلُّ ضرراً لسُدَد الكبد والطحال من كل حلو.
وهو مع هذا كله مأمونُ الغائلة ، قليلُ المضار ، مُضِرٌ بالعرض للصفراويين ، ودفعها بالخلِّ ونحوه ، فيعودُ حينئذ نافعاً له جداً.
وهو غِذاء مع الأغذية ، ودواء مع الأدوية ، وشراب مع الأشربة ، وحلو مع الحلوى ، وطِلاء مع الأطلية ، ومُفرِّح مع المفرِّحات ، فما خُلِقَ لنا شىءٌ فى معناه أفضلَ منه ، ولا مثلَه ، ولا قريباً منه ، ولم يكن معوّلُ القدماء إلا عليه ، وأكثرُ كتب القدماء لا ذِكر فيها للسكر ألبتة ، ولا يعرفونه ، فإنه حديثُ العهد حدث قريباً ، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يشربه بالماء على الرِّيق ، وفى ذلك سِرٌ بديع فى حفظ الصحة لا يُدركه إلا الفطن الفاضل ، وسنذكر ذلك إن شاء الله عِند ذكر هَدْيه فى حفظ الصحة.
وفى سنن ابن ماجه مرفوعاً من حديث أبى هريرة : مَنْ لَعِقَ العَسَل ثَلاثَ غدَوَاتٍ كُلَّ شَهْرٍ ، لَمْ يُصِبْه عَظِيمٌ مِنَ البَلاءِ ، وفى أثر آخر : علَيْكُم بالشِّفَاءَيْنِ : العَسَلِ والقُرآنِ ، فجمع بين الطب البَشَرى والإلهى ، وبين طب الأبدان ، وطب الأرواح ، وبين الدواء الأرضى والدواء السمائى.
إذا عُرِفَ هذا ، فهذا الذى وصف له النبىُّ صلى الله عليه وسلم العَسَل ، كان استطلاقُ بطنه عن تُخَمَةٍ أصابته عن امتلاء ، فأمره بشُرب العسل لدفع الفُضول المجتمعة فى نواحى المَعِدَةَ والأمعاء ، فإن العسلَ فيه جِلاء ، ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المَعِدَةَ أخلاط لَزِجَةٌ ، تمنع استقرارَ الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المَعِدَةَ لها خَمْلٌ كخمل القطيفة ، فإذا علقت بها الأخلاطُ اللَّزجة ، أفسدتها وأفسدت الغِذاء ، فدواؤها بما يجلُوها من تلك الأخلاط ، والعسلُ جِلاء ، والعسلُ مِن أحسن ما عُولج به هذا الداءُ ، لا سيما إن مُزج بالماء الحار.
وفى تكرار سقيه العسلَ معنى طبى بديع ، وهو أن الدواءَ يجب أن يكون له مقدار ، وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ، لم يُزله بالكلية ، وإن جاوزه ، أوهى القُوى ، فأحدث ضرراً آخر ، فلما أمره أن يسقيَه العسل ، سقاه مقداراً لا يفى بمقاومة الداءِ ، ولا يبلُغ الغرضَ ، فلما أخبره ، علم أنَّ الذى سقاه لا يبلُغ مقدار الحاجة ، فلما تكرر تردادُه إلى النبىِّ صلى الله عليه وسلم ، أكَّد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء ، فلما تكررت الشرباتُ بحسب مادة الداء ، بَرَأ ، بإذن الله ، واعتبار مقاديرِ الأدوية ، وكيفياتها ، ومقدار قوة المرض والمريض من أكبر قواعد الطب.
وفى قوله صلى الله عليه وسلم : صدَقَ الله وكذَبَ بطنُ أخيكَ ، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس لِقصور الدواء فى نفسه ، ولكنْ لكَذِب البطن ، وكثرة المادة الفاسدة فيه ، فأمَره بتكرار الدواء لكثرة المادة.
وليس طِبُّه صلى الله عليه وسلم كطِبِّ الأطباء ، فإن طبَّ النبىّ صلى الله عليه وسلم متيقَّنٌ قطعىٌ إلهىٌ ، صادرٌ عن الوحى ، ومِشْكاةِ النبوة ، وكمالِ العقل. وطبُّ غيرِه أكثرُه حَدْسٌ وظنون ، وتجارِب ، ولا يُنْكَرُ عدمُ انتفاع كثير من المرضى بطبِّ النبوة ، فإنه إنما ينتفعُ به مَن تلقَّاه بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال التلقى له بالإيمان والإذعان ، فهذا القرآنُ الذى هو شفاء لما فى الصدور إن لم يُتلقَّ هذا التلقى لم يحصل به شفاءُ الصُّدور مِن أدوائها ، بل لا يزيدُ المنافقين إلا رجساً إلى رجسهم ، ومرضاً إلى مرضهم ، وأين يقعُ طبُّ الأبدان منه ، فطِب النبوةِ لا يُناسب إلا الأبدانَ الطيبة ، كما أنَّ شِفاء القرآن لا يُناسب إلا الأرواح الطيبة والقلوب الحية ، فإعراضُ الناس عن طِبِّ النبوة كإعراضهم عن الاستشفاء بالقرآن الذى هو الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور فى الدواء ، ولكن لخُبثِ الطبيعة ، وفساد المحل ، وعدمِ قبوله.. والله الموفق.
وقد اختلف الناس فى قوله تعالى : {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ} [النحل : 69] ، هل الضمير فى فيه راجعٌ إلى الشراب ، أو راجعٌ إلى القرآن ؟ على قولين؛ الصحيح : رجوعُه إلى الشراب ، وهو قول ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والأكثرين ، فإنه هو المذكور ، والكلامُ سيق لأجله ، ولا ذكرَ للقرآن فى الآية ، وهذا الحديث الصحيحُ وهو قوله : صَدَقَ اللهُ كالصريح فيه.. والله تعالى أعلم.🙋