معظمنا يعرف شخصية "القبطان باربوسا" من خلال سلسلة الأفلام الشهيرة "قراصنة الكاريبي" , الذي ظهر كشخصية قرصان لئيم لص يقوم بسرقة الذهب والسفن , ولكن لم يعلم معظمنا أن "باربوسا" هو شخصية حقيقية , لبحار مسلم فتح أكثر من مدينة أوروبية وكان من المجاهدين في سبيل الإسلام , ولكن الغرب دائما ما يشوه صورة الشخصية الإسلامية في
كثير من الأعمال وليس كلها, فاسأل أي شخص شاهد فلمًا من أفلام قراصنة البحار التي تنتجها "هوليود" عن اسم أشهر قرصان يظهر في الأفلام والقصص وحتى مسلسلات الأطفال، فلن يستغرق ذلك الشخص زمنًا طويلًا بالتفكير حتى يجيبك بأنه القرصان ذو اللحية الحمراء والعين الواحدة واليد المقطوعة والقدم الخشبية القرصان (بربروسا) الذي يظهر دائمًا في أفلام "قراصنة الكاريبي". والحقيقة التي لا يراد لنا أن نعرفها أن بربروسا هذا الذي يصورونه لنا بهذه الصورة المخيفة ما هو إلّا بطل إسلامي قل نظيره في تاريخ الأنسانية جمعاء، رجل كله عزة وكرامة، ومنعة وسؤدد، مجاهد في سبيل الله، لم يكن قرصانًا متعطشًا للدماء كما يصورونه، بل كان بطلًا يعمل لإنقاذ دماء آلاف المسلمين التي كان يسفكها أجدادهم المجرمون !..
وفي هذا المقال سنتعرف عن هذا البحار العظيم ..
- القصة تبدأ بذلك اللقاء الذي جمع السلطان العثماني (سليم الأول) رحمه الله بقائد بحري فذ اسمه (عروج)، وهو قائدٌ عثماني من أب ألباني وأم أوروبية أندلسية هربت بدينها من إرهاب محاكم التفتيش الصليبية في أقبية كنائس إسبانيا، كانت تقص عليه وعلى إخوته قصص التعذيب البشعة التي تعرض لها أخوالهم في الأندلس، وتروي لهم حكايات المقاومة الشعبية الإسلامية الباسلة لمسلمي الأندلس الذين رفضوا تغيير دينهم، فربتهم على طاعة الله وحب الجهاد في سبيله، وهنا يأتي دور الأم المسلمة صانعة الأبطال! المهم أن الخليفة العثماني الشهم سليم الأول استدعى القائد عروج وأطلعه على رسائل الاستغاثة التي بعث بها مسلمو الأندلس من أقبية الكنائس المظلمة، فأوكل إليه سليم الأول مهمة هي في عُرف الدنيا مهمة مستحيلة، وأعطاه التوجيه الإستراتيجي لهذه المهمة:
المهمة المستحيلة
(1) الإبحار من أقصى شرق البحر المتوسط في تركيا إلى أقصى غرب المتوسط في الأندلس و محاربة أساطيل الجيوش الصليبية مجتمعة ( إسبانية وبرتغالية وإيطالية وسفن القديس يوحنا).
(2) التمكن من اختراق كل تلك الحصون البحرية التي تبني جدارًا بحريًا حول الأندلس و التمكن من الرسو الآمن في إحدى المدن الأندلسية المحتلة من قبل القشتاليين الصليبيين.
(3) تدمير الحامية البحرية الإسبانية لتلك المدينة وشل قوة العدو الدفاعية و التحول إلى اليابسة وخوض حرب شوارع ضد القوات البرية الإسبانية في أزقة تلك المدينة وشوارعها.
(4) تحرير المدينة الأندلسية من جديد ورفع راية الإسلام العثمانية على قلاعها و مباغتة الكنائس بصورة مفاجئة للحيلولة دون هروب القساوسة الكاثوليك الذين يعرفون أماكن غرف التعذيب السرية.
(5) البحث في جميع أقبية الكنائس المظلمة بشكل فوري قبل أن يتم تهريب المُعذبين المسلمين والتمكن من العثور على الغرف السرية التي يُعذّب فيها المسلمون الأوروبيون.
(6) بعد العثور على غرف التعذيب السرية يتم تحرير المسلمين مع مراعاة عدم نقلهم من الأقبية حتى غياب الشمس لتجنب إصابة الأسرى بالعمى نتيجة عدم رؤيتهم للشمس منذ سنين.
(7) يتم نقل الأسرى حملًا إلى السفن الإسلامية العثمانية، مع مراعاة الحالة البدنية الفظيعة التي وصلوا إليها، مع تجنب تعرض جلودهم المهترئة للتمزق أثناء الحمل.
(8) إخلاء المدينة على وجه السرعة، مع مراعاة أن لا تستمر العملية منذ الرسو في الميناء وحتى الإقلاع أكثر من 6 ساعات لتجنب الاشتباك مع قوات المدد للعدو من الآتية من المدن المجاورة.
(9) الإبحار تحت جنح الظلام والتمكن من شل حركة العدو البحرية أثناء رحلة الرجوع، مع الأخذ بعين الاعتبار أن العودة هذه المرة لن تكون نحو تركيا، وإنما ستكون نحو الجزائر من طريق آخر لإسعاف الأسرى بأسرع وقت من جهة، و لخداع بحرية العدو من جهة أخرى.
هل رأيت أو سمعت أو قرأت عن مستحيلة في تاريخ البشر أصعب من هذه المهة ؟!
الغريب أن القائد عروج قام بتنفيذ هذه المهمة بنجاح ! والأعجب من ذلك أنه قام وإخوته بتكرارها مرَّات ومرَّات، فأنقذ أولئك الإخوة الألبان جزاهم الله كل خير عشرات الآلاف من أرواح المسلمين. وذاع صيت القائد الإسلامي عروج في بحار الدنيا كلها، وتناقلت شوارع أوروبا الكاثوليكية قصصًا متناثرة عن بطولة بحار عثماني يبحر كالشبح المرعب فلا يستطيع أحد صده أبدًا، أما الأندلسيون المسلمون فقد أسمَوْه (بابا أروج) أو (بابا أروتس) أي (الأب عروج) في لغة الأندلسيين الأوروبيين، وذلك من فرط احترامهم وتقديرهم لهذا البطل الذي خلّصهم من ويلات محاكم التفتيش، فحرف الإيطاليون (بابا أروتس) إلى (بَربَروس) وتعني بالإيطالية الرجل صاحب اللحية الحمراء، ولعل هذا هو سر امتلاك القرصان الذي يظهر في أفلامهم لحيةً حمراء.
المهم أن القائد عروش اصطحب معه في جهاده إخوته اسحق وإلياس وخسرف (خير الدين). فاستشهد إلياس رحمه الله في جهاده وقام خير الدين بمحاربة الحكام العملاء مع الصليبيين الأسبان في بلاد الجزائر، بينما سقط عروج في أسر فرسان القديس يوحنا في جزيرة "رودس"، ولكن البطل عروج وبعملية خيالية استطاع أن يحرر نفسه، ثم قام بالتسلل بحرًا إلى إيطاليا، وهناك استولى على سفينة من سفن الجيش الصليبي بعد أن قتل كل من فيها من الجنود الصليبيين، ثم أبحر بها وحده من إيطاليا إلى مصر، فقابل السلطان المملوكي (الغوري) رحمه الله، فأهداه الغوري سفينة بعتادها ومجاهديها، ومن ميناء الإسكندرية انطلق المجاهد الفذ عروش مرة أخرى ليلقى أخاه خير الدين ويواصلان معًا الجهاد في سبيل الله بسفنهم القليلة المتواضعة، فأصبح اسم " الأخوان بربروسا " اسمًا يرعب سفن الصليبيين الغزاة في كل بحار الأرض، ولكن أحد الخونة من الحكام الموالين لإسبانيا الصليبية آنذاك قام بمساعدة الغزاة في حصار مدينة "تلمسان" الجزائرية، ولكن القائد البطل عروج وجنوده الأتراك والجزائريين أبوا الهروب أو الإستسلام، وفضلوا أن يلقوا الله شهداءً في سبيله، فقاتل عروج بكل ما تحمله البسالة من معنى بيد واحدة بعد أن كان قد فقد يده الأولى من قبل وهو يجاهد في سبيل الله لانقاذ نساء المسلمين وأطفالهم، ولمّا علم الإسبان أن القائد عروج بنفسه هو الذي يقاتل، بعثوا بالإمدادات العسكرية لتحاصر هذا البطل من كل اتجاه وهو يقاتل بيد واحدة و ينظر إليهم وعينيه هناك في الجنة حيث ينتظره الشهداء الذين سبقوه، فأحاط به الصليبييون بسيوفهم في كل موضع قبل أن ينهالوا على جسمه بسيوفهم الغادرة تقطيعًا و تمزيقًا، ليرفع القائد عروج نظره إلى السماء ليتذكر ابتسامات الأطفال الأندلسيين الذين كانوا يبادلونه إياها عندما كان ينقذهم ويعيدهم إلى أحضان امهاتهم، ولعل عروج تذكر حينها دعوات أولئك الشيوخ والعجائز في أقبية التعذيب المظلمة في كنائس إسبانيا عندما كان يحملهم على كتفيه لينقذهم في سفنه، لعله تذكر أمه الأندلسية عندما كان ينام في حضنها وهو طفل صغير وهي تمشط شعره بأصابعها وتقص عليه قصةً النوم من قصص الأبطال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن قصص أهلها في الأندلس و قصص ما كانوا يلاقونه من تعذيب مخيف في محاكم التفتيش، لعله تذكر أخاه الصغير خير الدين وهم أطفال صغار يلعبون في مراعي ألبانيا الخضراء وكل واحد منهم يقص لأخيه كيف سيصبح بطلًا يجاهد في سبيل الله عندما يكبر، وبينما الصليبييون يغرسون سيوفهم في قلبه رفع القائد عروج إصبعه عاليًا وحرك شفتيه مبتسمًا وهو يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله.... وأشهد أن محمدًا رسول الله .
لم يكتفِ الغزاة الصليبيون بقتل البطل عروج وإنما قطعوا رأسه وأخذوها ليطوفوا بها في مدن أوروبا الكاثوليكية التي دُقت بها أجراس الكنائس احتفالًا كلما مر رأس القائد الكابوس الذي كان يذيقهم ألوان الذل والهوان (بربروسا). ولكن ليس المهم في أمة الإسلام من يحمل الراية، بل المهم أن تبقى الراية مرفوعة دائمًا ! فإن كان قد سقط بطل من أبطال أمة الإسلام فإن هناك بطل آخر يولد بها، إنه القائد البطل (خير الدين بربروسا) شقيق القائد عروج الذي صمم على الثأر لدم أخيه المجاهد رحمه الله، فجهز سفنه واتجه بها مباشرةً إلى تونس فدمر السفن الإسبانية هناك، وحررها من الصليبيين وأذنابهم، ثم توجه بجنوده العثمانيين الأتراك فحرر الجزائر، ولم يكتفِ بذلك بل قام باحتلال "جزر البليار" الإسبانية بعد أن دمر الأسطول الإسباني هناك. ولمّا سمع البابا (بولس الثالث) في روما بانتصارات هذا القائد المسلم أعلن من "الفاتيكان" حالة النفير العام في أرجاء أوروبا الكاثوليكية، فتكوّن تحالف صليبي ضخم من 600 سفينة تحمل نحو ستين ألف جندي، ويقوده قائد بحري أسطوري هو أعظم قائد بحري عرفته أوروبا في القرون الوسطى وهو (أندريا دوريا) وذلك لإنهاء الإسلام كلية في البحر الأبيض المتوسط، بينما تألفت القوات العثمانية من 122 سفينة تحمل اثنين وعشرين ألف جندي فقط. والتقى الأسطولان في معركة "بروزة" في (4 من جمادى الأولى 945 هـ 28 من سبتمبر 1538م)، احفظ معي هذا التاريخ جيدًا، فوالله إنه يوم من أيام الله العظيمه، إنه يوم معركة بروزة البحرية الخالدة ! وبالرغم من تفوق الصليبيين بالعدة والعتاد، إلا أن بربروسا قائد بحرية المسلمين انتصر انتصارًا كبيرًا ، ودمر خير الدين بربروسا الأسطول الأوروبي المتحالف تدميرًا كليًا، فهرب أسطورتهم "أندريا دوريا" من ميدان المعركة التي لم تستمر أكثر من خمس ساعات، وما ذكرت كتب التاريخ شيئًا عنه بعد تلك الهزيمة المخزية !
وبعد هذا الانتصار الإسلامي الضخم، عمَّت حالة من الفزعَ والهلعَ أرجاء الإمارات الصليبية، وأصبحت البحرية الإسلامية العثمانية سيدة البحر المتوسط بلا منازع لثلاثة قرون متَّصلة، ووصل خبر انتصار القائد المجاهد خير الدين بربروسا إلى بلاد المسلمين في كل مكان، فعلت صيحات الله أكبر في مآذن مكة والمدينة والقدس وبومباي ودمشق والقاهرة و سمرقند وجميع ديار المسلمين، وصلى المسلمون هناك صلاة الشكر احتفالًا بنصر الله المؤزر على يد القائد المجاهد خير الدين بربروسا. واستقبل خليفة رسول الله السلطان العثماني الشهم بن الشهم سليمان القانوني بن السلطان سليم الأول خبر هذا النصر بالسجود شكرًا لله بعد أن أتم ما بدأه والده المجاهد سليم الأول رحمه الله من إنقاذ المسلمين في الأندلس، فقام بتعيين خير الدين بربروسا أميرًا عامًا للأساطيل الإسلامية العثمانية المجاهدة في كل بحار الدنيا.
ولكن هل اكتفى هذا العملاق بذلك النصر الذي حققه؟
كلّا...لم يكتفِ بربروسا بما صنعه من مجد للإسلام، فقام مباشرةً بحملات مكثفة لإنقاذ المسلمين في الأندلس من تعذيب محاكم التفتيش، فأبحر في البحر الأبيض المتوسط جيئةً وذهابًا لنقل اللاجئين المسلمين الأندلسيين، فأنقذ وحده 70 ألف مسلم ومسلمة بمن فيهم من أطفال ونساء وشيوخ، حتى كان أهل الأندلس هم من أطلق عليه اسم (خير الدين) بدلًا من اسمه الحقيقي (خسرف) عرفانًا له بالجميل.
فرحم الله القائد خير الدين بربروسا، ورحم الله أخاه البطل عروج من قبله، وجميع إخوته المجاهدين، فوالله إن الإخوة بربروسا كانوا نِعم الإخوة، لم يتنافسوا على تركة ورثوها عن أبيهم أو لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا، بل تنافسوا أيهم يسبق لنصرة الإسلام وإنقاذ المسلمين الأبرياء. وإن كان هؤلاء الأبطال قراصنةً فأكرم بهم قراصنة، ولكنهم والله ما قصدوا البحر طمعًا في كنز مدفون في قاع المحيطات، أو سفينة غارقة في غياهب البحار، بل قصدوا البحر طمعًا في ما هو أثمن من كل كنوز الدنيا....الجنة.
هؤلاء هم أبطالنا المنسيّون، ولكنهم لن يعيدوا منسيين بعد الآن بإذن الله، فلقد انتهى الزمان الذي كنا نقرأ ما كتبه أعداء الأمة لنا، وجاء زمان نكتب نحن فيه تاريخنا بأنفسنا، وإن كنتُ الآن لا أستغرب سر رعب الغرب من اسم " بربروسا " ! إلا أننا نرفض رفض البتة تشويه صور أبطالنا ووصمهم بالقرصنة، فمن كان متشوقًا من الغرب بقصص القراصنة و المجرمين فليبحث عن أصل أكبر بنوك أمريكا "بنك مورجان" وليقرأ عن قصص القرصان "مورجان الأمريكي" وكيف كان يقتل الهنود الحمر ويستولي على أموالهم ليبنى بها هذا البنك القائم إلى يوم الناس هذا ! أمّا أبطالنا... فخط أحمر!!!